وهم الحقيقة وجوائز الترضية الجزء 2… – 2006-06-27

وهم الحقيقة وجوائز الترضية 2
(القسم الثاني)
من الطرائف أن رجلاً استخدم بنَّاءً لعمارة جدار ، ولما انتهى سأله الرجل : هل جعلته متيناً؟ فقال البناء: هو كما تحب ، ولكن من الأفضل أن لاتقف العصافير عليه!
مامن شك أن كل من تخرج من شفتيه كلمة التوحيد بصدق وإخلاص يكاد يذوب حسرة وأسى على واقع الأمة ، ولكن التحرق (الإخلاص) لا يكفي ، ويظهر لنا مع الأيام أن تتبع الصواب أيضاً لايكفي! فقد صار ضرورياً الدندنة على محور مهم وهو الإتقان (أي متانة البناء) كي لاتكون منظوماتنا الشرعية والأخلاقية مثل الجدار الركيك الذي أقامه بنَّاء غشاش.
حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فيه بعد ذو مغزى عميق إذ يقول :كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في الجاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَن). قلت وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.).
) أخرجه مسلم في الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، رقم: 1847).
إن إتقان العض على الجذع هو سبب للنجاة! وهذا العض (التمسك) تخلف عنه بعضنا وأصبح الإسلام قابلاً للتذويب السهل في نفوسنا ، وفي حين أننا ندعو إلى أوسع مايمكن لصدر الإسلام أن ينفتح له فإننا ندعو إخواننا وأخواتنا إلى الاستنفار في وجه منهج التذويب والحت والتلاعب الذي صار سارياً بشكل ماكر وهادر في جنبات مجتمعاتنا المسلمة.
نريد بناء متيناً لا يقلقله وقوف العصافير عليه ، وديناً راسخاً لا يهتز لترغيب وترهيب ، ولا يطيش أصحابه في فتنة ولا يبيعه أصحابه عند أول جائزة ترضية وما أكثرها في هذا الزمان!
منذ أيام اتصلت بي امرأة لتخبرني كيف أن صهرها يضرب زوجته ضرباً لا ينبغي أن يضرب لبعير شرود ، فدمعت عيني وقلت : سبحان الله! كيف أن مئات الدروس لم تغن ذلك الرجل ليعلم أن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ما مد يده ليضرب امرأة قط رغم أن ذلك كان طبيعياً في مثل البيئة الجاهلية.
وكل فترة يأتينا إخوة كرام بخصومات شديدة يفرق فيها المال ما يجتمع لهم من هم الدعوة ، وترى لدى بعضهم من اللحن من القول ماتضيع به الحقائق والكل يزعم وصلاً بليلى!
وسمعت ممثلاً سورياً شهيراً جداً يتحدث في فضائية عن نكسة أو نكبة أو زلة حزيران بفم ملآن ، ويقول أن أحد كبار المسؤولين أتاهم قبل سقوط الجولان بساعات ليخبرهم أن يجهزوا أنفسهم لغداء في تل أبيب ، وقال ذلك الممثل (وعلى ذمته) أن مجلس الشعب لا يمثل الشعب وأنه لو دخل فيه لذهب إلى السجن بعد ساعة واحدة!
عجبت لما يذكر الممثل ، وللوم شديد يواجهنا به بعض إخواننا وأساتذتنا من العلماء يعتبون فيه أن فلاناً خطيب الجامع الأموي في دمشق قد عزل يوماً ( وقبل أن يصبح الخطباء فيه خمسة عشر خطيباً – أي والله العظيم – خمسة عشر ) لأنه تكلم عن سقوط سيناء ( وليس الجولان) .
لماذا يكون الحق والإيمان في نفوسنا قشرة رقيقة جداً ، بحيث تضيع المعالم ، ونتوهم الحقائق في غيرها ، ولماذا لا يملك البعض أنفسهم فتخرج نزوات الغضب ضرباً لزوجاتهم ، وآخرون يصدعون في لحظات مابني خلال سنوات لحاقاً لفتنة مال يدعون البراءة منها ، وبريق حب المال يلمع في عيونهم ، ولماذا يكون ممثل أشد وعياً وشعوراً بخطر الديكتاتورية والظلم وكم أنفاس الناس أكثر من بعض أصحاب العمائم!
كل الأمثلة السابقة تشترك في شيء واحد قلة الإتقان في الالتزام! وتوهم الحقيقة في الباطل ، وقبول جوائز ترضية قليلة الثمن مقابل ضياع حق أصيل!
إن العمل الصالح يحتاج إلى حرقة (إخلاص) ، وصواب ، وإتقان ، وإحدى جبهات النصر للأمة الإتقان في كل ميدان ، ويقرر الإسلام أن العمل المتقن تمتد آثاره ، ثم تأتي ثماره من كل جهة ، ويبين ذلك حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ” ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا ، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”[1]. بل إن حديث الشيخين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة الثلاثة الذين حُبسوا في الغار ، ليقرر أن أحد أسباب دفع البلاء واستجابة الدعاء ، هو الإخلاص لله والأمانة في أداءِ الحق ، لما تصنعه الأمانة في النفوس من التوازن ، واليقين بأن جهد العامل لا يضيع مع مرور الوقت : “…وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب ، فثمَّرتُ أجره حتى كثرت منه الأموال ، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري ، فقلت: كل ما ترى من أجرك : من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا أستهزئ بك ، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون”[2].
تصورت بعض إخواننا ممن يماطلون العامل في أمور تافهة وتطلع روحه بين أيديهم وهم يزعمون الإدارة ، ويدعون الإقتصاد ، وماعلموا أن الأنظمة الظالمة التي حكمتهم قد أشربتهم روح الظلم فمشت في دماء بعضهم فصار ظالماً وهو لايدري.
إن الإسلام ينفرد بفكرة لا يشاركه غيره فيها ، وهي “أن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات ، كانت من قبيل العبادات أو العادات ؛ لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا ، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم ، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ، ويترك إذا طلب منه الترك. فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب”[3] ؛ لذا فإن أي عمل نافع لا تنهى عنه الشريعة فهو عبادة ، وواجب كفائي “يطلب من مجموع المكلفين ؛ وذلك كتعلم الصنائع المختلفة … وأنه إذا فعله أحد المكلفين سقط الطلب عن الباقين ، وارتفع الإثم عنهم جميعا ، وإذا أهمله الجميع أثموا جميعا”[4] ، ولا يسقط فرض الكفاية إلا عند قيام الكفاية.
من وجهة نظر إسلامية فإن هدف السعي في الأرض ليس كسب المال فقط ، أو التماهي مع الأوضاع التي يفرضها الظالمون أو يزجون الأمة فيها نتيجة الخلل البنيوي الذي يحملونه في عقائدهم وأفكارهم ، لأن المال أو الجاه أو الموقع الذي يكون لإقامة الحق ، ومد الصواب ، له فضلا عن معانيه التعبدية ، غايات تحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس ، وهذا يؤدي إلى التوازن النفسي على مستوى الفرد والجماعة ، وكم من مجتمعات بلغت الغاية في الكسب المادي ، ولكن أفرادها ظلت حياتهم مملوءة بالقلق والخوف والوحدة والشعور الحاد بالغربة القاتلة ، بل الجشع والتكالب وحب الاستئثار والانتهازية ، وهي كلها أمراض رسختها الأنظمة الظالمة ، حتى كأن الناس تعيش في غابة مملوءة بالوحوش الكاسرة ، لذا نجد علاقات طردية بين العمل الصالح -والذي من بعض ثماره بسط الرزق- والتوازن الاجتماعي ، وهذا المفهوم يتضح من خلال الحديث الصحيح: “من سره أن يبسط له فيرزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه”[5].
كثيرة هي النواقص التي مازلنا بحاجة لاستدراكها ، ومن ذلك الانتباه إلى عدم الخلط بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ، و إلا حصلت نتائج خطيرة ،وقد وضح القرآن الكريم أهمية المسؤولية الذاتية التي هي مناط التكليف ؛ حيث يقول تعالى:)فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره([6] ؛ )من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها([7] ؛ )وما تقدموا لنفسكم من خير تجدوه عند الله([8]؛ )وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون([9]. وكان التوجه النبوي الكريم تجاوز كل المعوقات التي قد تشل طاقة الإنسان الفعالة في العمل ، وفي حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كثيرا: “اللهم إني أعوذ بك من الهم ، والحَزَن ، والعجز ، والكسل ، والبخل ، والجبن ، وضَلَعِ الدين[10] ، وغلبة الرجال”[11]، وتمت ترجمة التوجيهات النبوية في المواقف العملية للصحابة الكرام ، فقد “كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم…”[12]، وعندما كان بعض الصحابة يعرض على أخيه أن يشاطره نصف ماله ، كان يدعو له بالبركة ، ثم يقول: “دلوني على السوق”[13] ، فلا يرضى إلا أن يكون العمل الجاد المشرف هو المقابل للإيثار العظيم الذي بادره به أخوه ، ولقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على مبدأ عظيم: “اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول”[14] ؛ حتى أنه كان يشجع صبيان المسلمين على العمل ، وقد ترجم في الإصابة لعبد الله بن جعفر ، فنقل عن البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعبد الله بن جعفر ، وهو يبيع بيع الصبيان ، فقال: “اللهم بارك له في بيعه ، أو صفقته”[15]، ومن أهمية العمل في الإسلام أنه أحد معايير التقييم ؛ لدرجة أن عمر بن الخطاب كان “إذا رأى غلاما فأعجبه سأل: هل له حرفة؟ فإن قيل:لا ، قال: سقط من عيني”[16] ، وبلغ من حرص الأصحاب رضي الله عنهم أن “(صنع القفاف ونحوها من الخوص وهو ورق النخيل) كانت حرفه سلمان الفارسي ، حتى وهو أمير في المدائن ؛ فيعيش بها ، وكان يقول: أحب أن أعيش من عمل يدي …”[17]، وسار على ذلك فقهاء الإسلام الكبار يحثون الأمة على الإتقان والعمل الصالح ، “وفي عمدة الطالب: طلب التكسب واجب ، فريضة ، ثم التكسب أنواع: كسب مفروض ، وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه ولعياله وقضائه دينه ، وكسب مستحب ، وهو كسب الزيادة على أدنى الكفاية ؛ ليواسي به فقيرا أو يجازي به قريبا ، ثم قال: إنه أفضل حتى من التخلي لنفل العبادة …”[18]، بل إن العمل في خدمة الكلاب خير من البطالة والبقاء عالة على الناس ، ويقول الإمام السبكي أن على (الكلابزي) ، وهو الذي يخدم الكلاب “…أن يعلم أن في كل كبد حرى أجر ، وإذا كان له على خدمتها جُعلٌ فهذه نعمة ثانية ، عليه أن يوفيها حق شكرها…”[19].
من هنا ندرك ماتفعله الأنظمة الظالمة في النفوس وكيف أنها ترحب بكل فكر ليس وراءه عمل ، وبكل متحدث يشجع الناس على الروحانيات ، والبعض على الخرافات ( وتفتح له الأبواب العريضة) وتضيق على كل من يقود الناس إلى العمل ، كي يبقى الدين أسيراً للظالمين يوجهونه حيثما يشاؤون! ويرضون بعض حملته بجوائز ترضية فهذا همه إقامة حفلة مولد فلتعط له ، وهذا يستجير بفروع الأمن ليبقى خطيباً لمسجد ، وذلك يستعين بمسؤول كبير لفك قيد تجارة حبسها رجال الجمارك ، وذلك يستغيث بصاحب نفوذ لإزهاق روح جاره الذي قلل الأدب معه ، ويكاد الحق يضيع بين أيدي أصحاب الهمم الخسيسة.
من أعجب العجب أن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم اضطهدوا لثباتهم على الحق وأكثر أتباعهم لايعلمون ذلك لأن سيرهم في هذا الجانب مغيبة ، فيكفي أن نحدث الناس أن الشافعي كان يقرأ في رمضان ستين ختمة من القرآن! (وهو أمر ينكر أمثاله ابن حزم في الرسالة الباهرة) ،ولانحدثهم أنه جُرَّ بالسلاسل لحبه لآل بيت محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ويكفي أن نحدثهم عن أبي حنيفة وذكائه في إيجاد لُقية ضائعة ولا نوضح لهم كيف أنه مات في السجن مؤثراً أن لايتولى القضاء لحاكم لا يعتقد بصواب حكمه ، أما مالك فلا يقال للناس أنه تحمل الضرب الشديد من أجل فتيا أبطل بها مكر الحاكم وبيعته الظالمة ، أما الإمام أحمد فلعله أكثر من نتداول قصته (نكاية بالمعتزلة) ولكننا لا نوضح للناس أن مذهب المعتزلة كان مذهب دولة ، وأن عظمة موقف الإمام أحمد ليست في التصدي لمذهب مهما كانت له شذوذه فإنه في النهاية مذهب إسلامي ، بل العظمة أنه تحدى الإكراه في الدين الذي حاولت الدولة فرضه مستغلة قوتها المادية والمعنوية الهائلة ، فما خشع الإمام العظيم لها ، واستطاع بمنهج سلمي صرف أن يكسر شوكة الظلم ويفشل سياسة الدولة في فرض مذهبها الديني بالقسر والإكراه.
لسنا بحمد الله دعاة تفكيك للدولة ، بل نرى أن الحرص عليها أوجب في هذه الظروف ولكن على أي دولة أن تحرص هي على عدم تفككها بنشر العدل ، وإلغاء كل قانون انتهى لزومه ، أو حصل الجور والظلم فيه ، وإعطاء المواطنين حقهم كاملاً دون تلاعب ولا محاولة كسب للوقت ، والدول تتغير إما بقوة كاسرة من الخارج كما سقط عراق صدام الذي باعه ابن عمه (قائد الحرس الجمهوري العظيم) لأن المناهج التي تفتقر إلى الأخلاق ماكانت لتصمد في وجه الطوفان لأنها بنيت على الظلم والرشوة والفساد ، وإما أن تتغير الدولة بقوة داخلية هائلة ، ومثال ذلك ثورة الخميني ، وقريباً تجربة لم تظهر بعد آثارها وأعني بها تجربة حركة المقاومة الإسلامية حماس ، أما الطريقة الثالثة ، وهي الأخطر فهو أن يقرر الناس رفض أي تدخل خارجي ، ولا يقوون على تغيير داخلي ، فتنتشر بينهم سلوكيات اللامبالاة والانتهازية والتظالم وانعدام الحس ، وقلة الأمانة ، وعندها تصبح أي دولة تصاب بذلك ؛ تماماً مثل خشب يهترئ والقوارض والحشرات تعمل فيه ، حتى إذا آن الأوان تحققت سنة الله وهذا له في التاريخ أمثلة كثيرة ، من أوضحها سقوط بغداد على يدي التتار ، فليس التتار المتوحشون هم من أسقطوها بل الفساد ، إذ أصبح جيش الخلافة العظيم لا يزيد عدداً عن عشرة آلاف جندي يتسولون رواتبهم من الناس!! لكثرة السرقات والنهب ، مما تحدثنا عنه في كلمة سابقة.وكذلك فرنسة عندما انهارت في وجه ألمانية ، وتفكك الاتحاد السوفيتي ، ومهما قيل عن التخطيط الخارجي وهو حاصل ، فإن الفساد الداخلي هو المعتمد والنواة للسقوط!
لا نريد لأي بلد مسلم أن ينخر فيه السوس ولا أن تحصل فيه فتنة ولا تمتد إليه يد غريب علمت الدنيا كلها حقده ومكره! ومن أجل ذلك فإننا نطالب بالحريات العامة لكل الناس وخصوصاً الإسلاميين (لا صدقة من الحكام بل حقاً لن نتركه مهما طالت بنا وبهم الأيام) .
نعود إلى الإتقان الذي يلزمنا اليوم وتشتد الحاجة إليه ، فلسنا نريد نصف مسلم ، ولا شبيه ملتزم ، ولا صاحب توهم ولا حاملاً للإسلام قشرة رقيقة تتكسر ، ولا مشغوفاً بالجوائز ،
رأيت بعض الناس في فرح شديد لظهور مايسمى بالقنوات الإسلامية! وعمل لها بعض العلماء من الدعاية الكثير ، ولكن مهلاً .. نحن في حالة ضعف ، والسهام تنهال علينا من كل جانب واختيار أقل المفسدتين واجب ، والبحث عن منفذ في الظلام فريضة ، ولكن هل نعتبر الضرورة ضرورة ، وتبقى الأمة تعمل وتعد لما هو الأصل ، أم أنها تغرق في الحلول الجزئية ، وتنسى الإعداد لحل جذري بعيد؟ سررت من شاب في مقتبل عمره قال لأحد الناطقين الإسلاميين الذي يهلل لقناة صاحبها ذو مال تحفه الشبهات : أنا أعلم أن كفار مكة عندما أرادوا بناء الكعبة تعاهدوا أن لا يقدم واحد منهم مالاً فيه شبهة رِبا توقيراً وتعظيماً لرب البيت الذي حرمه! فنظر ذلك الناطق إلى الشاب بوجل وقلق ولم يعقب!
في الأمة ملايين من المسلمين الصالحين يملكون الأموال الحلال ، فلماذا لا ينشئون قناة إسلامية واسعة الطيف سليمة الأهداف ، تسع كل المسلمين ، وتتبع منهجاً وسطاً ، وبحيث تبقى إسلامية فلا تستدعى فيها ممثلة لتقدم للناس كخبير اجتماعي ، ولا يطلب رأي ممثل في تربية جيل الأمة ، ولا يزين للفتيات فيها حجاب ترحم الناس فيه على تبرج الجاهلية الأولى!
ألا تحسون أيها الإخوة والأخوات أنه عندما تنشأ قناة إسلامية تحف أصحابها الشبهات في أموالهم ، ويلقون في وجوه الشباب والشابات كل يوم بمفاسد هائلة في قنوات أخرى يملكونها ، وهم الصالحون! المصلحون أن كل ذلك نوع من احتلال الساحة ، وأن المسلمين لن تكون بين أيديهم مع الوقت أي وسيلة إعلامية فعالة لأنهم لم يبنوها بعد ، وتوهموا أن أصحاب تلك القنوات هم حملة الحق في الأرض ، وفي اللحظات الحرجة للأمة أو تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها التجار بالأمة فيمكن ببساطة حرمان المسلمين من أية وسيلة بل خنقهم تماماً.
لنستفد من المتاح الآن مع الانتباه والإعداد لما هو يناسبنا حقاً مع بقاء خطوط حمراء لانقبل بتجاوزها ، ولتكن لنا مواقف واضحة ، ومفاصلة في الأمور الجذرية ، وليس مناورات ضعيف في قبضة جبار لا يرحم.
ونختم الكلام بقصة الإمام القرافي وقد كان إماما متبحرا في علوم الشريعة وفنونها ؛ ومن نوادر زمانه في صناعة الآلات (الميكانيكية) والفلكية!، وقصته حقيقة قمة في الإتقان والمعرفة والإحاطة التي نفتقر إليها من أبسط مستوى إلى أكثره تشابكاً : “حكى ابن طولون في رسالته: قطرات الدمع فيما ورد في الشمع ، عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن إدريس القَرَافي المالكي أنه قال في (شرح المحصول): بلغني أن الملك الكامل وُضِع له شمعدان … كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه ، وخرج منه شخص يقف على خدمة الملك ، فإذا انقضت عشر ساعات طلع الشخص على أعلى الشمعدان وقال: صبح الله السلطان بالسعادة فيعلم أن الفجر قد طلع. قال [أي القرافي]:
وعملت أنا هذا الشمعدان ، وزدت فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة ، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد إلى الحمرة الشديدة ، في كل ساعة لها لون فإذا طلع شخص على أعلى الشمعدان ، وإصبعه في أذنه يشير إلى الأذان ، غير أني عجزت عن صنعة الكلام”[20].
أما إخواننا في بلاد الغربة فيتعللون بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتباعد المسافات وضياع المرجعية وكثرة الاجتهادات ، والعيون المفتوحة على المسلمين ونشاطاتهم ، يتعللون بكل ذلك لتبرير عدم إتقان حملهم للإسلام ، لذا فأكثرهم يجد سبباً مقنعاً له يغطي العطالة الهائلة التي يقع فيها وهذا ماسنحاول جلائه في كلمة الشهر القادمة ، وهي عن توهم الحقيقة في ديار الاغتراب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحمد معاذ الخطيب الحسني
لأسباب مرضية قاهرة تأخرنا أياماً في كلمة الشهر فيرجى المعذرة.
-اطلع في هذا الشهر على حياة العلامة المفكر أحمد مظهر العظمة أحد مؤسسي الحركة الإسلامية في سورية ، ومن أهم رجال جمعية التمدن الإسلامي. (منائر في الدرب – أعلام)
في قسم ركن الدعوة- اطلع على مسودة اتحاد العلماء والأئمة والدعاة.
[1 ] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب الحرث و المزارعة (41) ، باب فضل الزرع والغرس (1) ، الحديث (2320) ، 5 ، 5.
[2] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، المرجع نفسه ، كتاب الإجارة (37) ، باب من استأجر أجيرا فترك أجره (12) ، الحديث (2272) ، 4 ، 525.
[3] – أبو إسحاق ، إبراهيم بن موسى ، الشاطبي (790هـ/1388م) ، الموافقات في أصول الشريعة ، شرحه وخرج أحاديثه: عبد الله دراز ، وضع تراجمه: محمد عبد الله دراز ، خرج آياته وفهرس موضوعاته: عبد السلام عبد الشافي محمد ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، د.ت ، 1، 155.
[4] – وهبة الزحيلي ، أصول الفقه الإسلامي ، إعادة (ط1) ، دمشق ، دار الفكر المعاصرـ بيروت/ دارالفكر ـ دمشق 1417/1996 ، 62.
[5] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب البيوع (34) ، باب من أحب البسط في الرزق (13) ، الحديث (2067) ، 4 ، 353.
[6] – الزلزلة ، 7 ، 8.
[7] – الجاثية ، 15.
[8] – المزمل ، 20.
[9] – التوبة ، 105.
[10] – ضلع الدين: ثقله وشدته.
[11] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب الجهاد والسير (56) ، باب من غزا بصبي للخدمة (74) ، الحديث (2893) ، 6 ، 102.
[12] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، المرجع نفسه ، كتاب البيوع (34) ، باب كسب الرجل وعمله بيده (15) ، الحديث (2070) ، 4، 355
[13] – أكرم ضياء العمري ، السيرة النبوية الصحيحة (محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية) ، ط6 ، المدينة المنورة ، مكتبة العلوم والحكم ، 1415/1994 ، 1، 244.
[14] – ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب الزكاة (24) ، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (18) ، الحديث (1427) ، 3 ، 345.
[15] – أحمد بن حجر، العسقلاني (852هـ/ 1449م ) ، الإصابة في تمييز الصحابة ، مصر ، المكتبة التجارية الكبرى ، 1358/1939 ، 2 ،281. و سند البغوي متصل ، ورجال السند ثقات ؛ عدا خليفة فهو لين الحديث.
[16] – عبد الحي الكتاني ، نظام الحكومة النبوية (التراتيب الإدارية) ، بيروت ، الناشر: حسن جعنا ، دت ،2 ،23.
[17] – عبد الحي الكتاني ، التراتيب الإدارية ، مرجع سابق ، 2 ،93.
[18] – عبد الحي الكتاني ، التراتيب الإدارية ، المرجع نفسه ، 2، 3.
[19] – عبد الوهاب السبكي ، تاج الدين (771هـ/1370م) ، معيد النعم ومبيد النقم ، حققه وضبطه وعلق عليه: محمد علي النجار – أبو زيد شلبي ، محمد أبو العيون ، القاهرة ، دار الكتاب العربي 1367/1948، 145.
[20] – أحمد بن إدريس المصري المالكي ، شهاب الدين القرافي (684هـ/ 1285م ) ، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: عبد الفتاح أبو غدة ، حلب ، مكتب المطبوعات الإسلامي ، 1387/1967 ، 15.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.